الظـــلم الســياســـــي: السقوط الحر فـــي الدرس المـر/ صبحة بغورة


الظلم صنوف و أنواع ودرجات وهو في كل الأحوال سواء كان ظلم اجتماعي أو أنساني سلوك ممقوت في العلاقات بين الأفراد و الأمم، ولا يعجل بنهاية أي نظام حكم سوى الظلم السياسي، فمنه يؤخذ الدرس تحت عنوان، كيف ينهى النظام.
ككل شيء في الدنيا هناك البداية و هناك أيضا النهاية ، وهما طرفا مشوار سياسي لنظام يمر بمحطات اختبار القوة أمام المقاومة ، قوة إحكام السيطرة أمام مقاومة رفض الهيمنة ، قوة تشد إلى حب البقاء التسلطي الديكتاتوري وقوة تجذب إلى التغيير الديمقراطي ، قوة تريد فئات الشعب لها تابعة  وقوة تريد السلطة لشؤونها متابعة ، وتختلف المرئيات بتباين المنطلقات الأساسية ،ومنها تتضارب المصالح والأهداف ، وعليها تتناقض المواقف  ثم يحدث الانسداد في قنوات الاتصال والتواصل فيغيب الحوار مع أجهزة الدولة وداخل دواليب الحكم ، انه الانغلاق السياسي الذي يؤشر على حدوث أزمة ..
هذا التوالي للأحداث هو مسلسل متماسك الحلقات بكل موضوعية و منطقية  يصيب كل الأنظمة التي تريد أن تضع نفسها في اختبار القوة أمام مقاومة شعبها لها ، والشواهد التاريخية قديمها وحديثها تؤكد ذلك وللأسف حملت هذه الشواهد من المآسي الشيء الكثير الذي ستحتفظ به الذاكرة الجماعية للشعوب سنين طوال ، والحكم الرشيد وحده هو من لا يرغب في رؤية شعبها يعيشها مرة أخرى .
وعودة على بدء .. كيف ينهى النظام ؟ 
منطق الأشياء  أن الصراع على السلطة  يقضي بإحكام القبضة بقوة على كل نشاط حيوي في البلاد مما يعني التنافس المحموم نحو التحكم في معظم مدخلات الاقتصاد و مخارجه ثم الامتداد الأفقي والرأسي لتوسيع مجالات النفوذ ، وهذا النفوذ ليس شيئا هلاميا لا معالم له بل هو محدد جدا أنه  نفوذ المال أولا الذي يمهد لولوج دوائر الحكم و مراكز صنع القرار ونفوذ المال لا تقاومه النفوس الخبيثة التي تحرص في كل وقت على إبداء ولاءها المزيف لمن يدفع .. إن مثل هذه النفوس تسهل المهمة كثيرا  على الطامعين في الحكم لأن الأمر لا يحتاج إلى إقناع و مفاوضات طويلة قد تنجح و قد تفشل.. المال سيف بتار لحسم ما استعصى من مسائل ومفتاح سحري لمغاليق الأمور، أنه وسيلة من يضيق من قيود القانون ومن يترفع عن الامتثال له ، أي أنه أداة لتجاوز النظام العام  ولخرق حالة السكينة و الاطمئنان المستندة إلى الأمن و السلم الاجتماعيين وللاعتداء السافر على الحقوق الثابتة الفردية و الجماعية  ، أنه الظلم الذي حرمته الشرائع السماوية وجرمته القوانين الوضعية لأنه "الرشوة " المعبرة عن قمة الفساد الأخلاقي الذي يمثل بحق بداية السقوط ،
إن الرشوة لا يتصور دفعها إلا للغرباء من أجل اكتساب أفضلية دون حق أو الحصول على مكاسب على حساب آخرين ولكن في مقابلها تبزر وسيلة أخرى لا تقل سوءا كونها لا تبالي بالكفاءة و العلم و المقدرة أمام أولوية ذوي القربى العائلية أو القبلية أو العشائرية أو للذين ينتمون إلى نفس المنطقة أو ينحدرون من نفس مسقط الرأس إنها "المحسوبية " المقيتة التي لا سبيل لنكرانها أو نفي وقوعها إنها في كل مفردات حياتنا بشكل أو بآخر،  وليس المقصود هنا التعميم المطلق فكثير ما تتقاطع هذه الاعتبارات مع وجود كفاءات حقيقية لا مناص من عدم الاستعانة بخدماتها ولا غرو من اللجوء إلى خبراتها العملية و كفاءتها العلمية ، ولكن إذا انعدمت هذه القدرات  الشخصية والإمكانيات الذاتية وجرى التعيين في مناصب المسؤولية لغير المؤهلين لها بل لمجرد درجة القرابة أو الانتماء فانه  بحق النفاق السياسي الذي يعد في حقيقته سوسة النظام التي تنتشر في دواليبه و تنخر في كيانه وصولا لتقويض أركانه لتحيله إلى كيان هش آيل للسقوط في كل وقت لسبب واحد وهو أن فئات الشعب قد أصبحت معزولة وجدانيا عن القيادة السياسية للبلاد بمعنى أننا لن نجد لها توثبا للانتصار لقضايا السلطة كما لن نجد صدى مبادراتها بين الشعب من تعبئة لقوى المجتمع وتجنيد فئاته لمشاريع النظام حتى لو اجتهدت أبواقه الإعلامية في تصوير الوضع بخلاف ذلك فهذا لا يعني أبدا أن النتيجة الطبيعية لسوء الوضع قد تكونت بفقدان الثقة و انعدام المصداقية ،
لن يكون انتشار المحسوبية محصورا أثره في ذاته بل منطقيا ستمتد تداعياتها في صور قاسية تعبر عن الغبن الاجتماعي ومن مظاهرها " التهميش " و الإقصاء ، وليس من قبيل التهميش استبعاد ضعيفي المستوى و التأهيل العلمي والتكوين المهني اللائق من مناصب المسؤولية في هذا شفقة عليهم من عبء ثقيل يجهلون طرق التعامل معه كما فيه رحمة  للمجتمع من مساوئهم وأخطائهم التي طالما شاهدنا نتيجتها على حياة الشعوب وعلى مدار التاريخ السياسي منذ القدم ، ولكن أن يحرم أحدهم رغم تمتعه بمؤهلات معترف بها من التعيين أو الارتقاء في السلم الوظيفي لصالح آخر أجاد لعبة النفاق السياسي ففي هذا إهدار سافر للكفاءات وتمكين فاضح للرداءة التي لا يمكننا معها انتظار أي خير للبلاد و العباد ، وهنا نكون قد وصلنا إلى آفـة الزوال .
لقد أكتمل ثالوث الظلم السياسي من الفساد الأخلاقي إلى النفاق السياسي ثم الغبن الاجتماعي وهو نفسه المؤدي إلى تفكك الوحدة الوطنية ،فكيف يمكننا تصور وجود  تآلف اجتماعي أو توافق سياسي أو حتى تضامن إنساني في مجتمع تمزقت أوصاله وتباعدت مصالح فئاته بعدما تضاربت الأهداف التي على كثرتها وتنوعها إلا أن القاسم المشترك بينها أنها لا تتعلق بالمصلحة الوطنية المحقة ،  إن مثل هذا الثالوث أعمق تأثيرا وأكثر وطأة على سيرورة الحياة العادية للمجتمع لأنها تفعل مفعولها بسرعة ربما تتجاوز في وتيرتها مسارات المعارضة الحزبية الرافضة والقوى النقابية الغاضبة التي تكتفي بالوقوف عند عتبة المطالبة بالحقوق الدعوة إلى تحسين الوضع المعيشي ، إن النظام الحاكم قد خلق في ذاته عوامل فنائه ، لقد وضع نفسه أمام مخاطر تهدد استمراره فنهايته أصبحت رهن حدوث ثورة شعبية عارمة على شاكلة " الشعب يريد.." أو انقلاب داخلي منظم له أساس و له رأس .. أو بتعرضه لهجمة عسكرية خارجية ضارية لن يكون من العسير تبريرها و ضمان الحشد لها بأسرع مما يتصور أكثر المتفائلين  ، ومهما كان الحال فان النظام  الذي اعتمد على شخصيات اتسمت بمحورية الذات لانجاز عمل يوهمون به الرأي العام أنه جماعي وأحاط نفسه بدوائر المنافقين نسي أن معارضة الشيء قد تكون في تأييده قبل أوانه  هو من قد رسم لنفسه آخر محطاته بعدما ضعفت لديه حدة البصر نحو الآفاق فعجز عن النظر للأمور نظرة شاملة غير مفككة وفقد مهارة التبصر والأخذ باعتبارات الحيطة و الحذر فلم يستغل التوهج الفكري لنخبته المثقفة ولم يحافظ على الطابع النفسي المطمئن كشرط أساسي للخيال المبدع،  الخيال الذي ينتج صورا تدعم الفكر الذي ينتج المفاهيم فكانت الأزمة أكبر من خطط الحل التي عادة ما تجيء في الربع ساعة الأخيرة وهو ما يعني بطء الحركة ونقص آليات الحل وغياب سياسة إنقاذ ، أي أن النظام لم يدرس التاريخ جيدا و بذلك حدد لنفسه نهاية مطافه  بالسقوط الحر في الدرس المر .

CONVERSATION

0 comments: